المقالاتعام

أدب الاختلاف

أدب الاختلاف

 

  لا يؤمن كثير من الناس بأن الناس خلقوا على اختلاف في عقولهم ، وطبيعة تفكيرهم ، مع أن الله بيّن ذلك في كتابه فقال جل جلاله  : ﴿ وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾    ([1]).

فتراهم يرغبون من جميع الناس أن يعتقدوا بالفكرة التي يروجونها ، أو يطرحونها ، ويجب على الجميع ألا ينكر عليهم وجهة نظرههم .

مع أن سنة الاختلاف لا يختلف على وجودها اثنان ، فمنذ أن خلق الله الأرض ومن عليها لم يتفق على الإيمان بالله جل جلاله جميع الناس ولم يأمر اللهُ رسلَه على إكراههم على الإيمان به ، فقال جل جلاله  : ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾    ([2]).

ولقد كان اختلاف العلماء في كثير من الفروع الفقهية المنتشرة في بطون أمهات الكتب من رحمة الله على الناس ، ودليل على رحمة الإسلام وسعته .

ولم ينكر أحد منهم على الآخر أنه قد خالفه الرأي في هذه المسألة الفقهية أو تلك ؛ بل كان الاحترام المتبادل هو السائد بينهم وها هو الإمام الشافعي– رحمه الله – يقول لنا بعبارته المشهورة :” قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب ” ، وما روي عنه- رحمه الله – أنه ما حاور إنساناً قط إلا وتمنى أن يأتي الحق على لسانه     ([3]) .

أما نحن فللأسف الشديد لا يختلف معنا أحد ، إلا وتقوم الدنيا ولا تقعد ، فتسمع هذا يقول : ( فلان مبتدع ) ، وآخر ( فلان عنده خلل في العقيدة ) وثالث ( هذا جاهل) ، وغيرها من الألفاظ التي تدلل على عدم احترام رأي الآخرين .

ولقد نهى مولانا جل جلاله  عن الاختلاف المذموم الذي يؤدي إلى الفرقة فقال جل جلاله : ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾    ([4]).

كما حذرنا جل وعلا من أن نكون كالذين اختلفوا ، فوجهنا لتجنب ذلك بقوله  جل جلاله  : ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾    ([5]).

وفي موطن آخر من كتابه بيّن أن الاختلاف ليس من طباع المسلمين ، بل ورد ذلك في موضع الذم للمشركين فقال جل جلاله  : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾     ([6]).

ولقد ضربت لنا السنة عن الصحابة الكرام مثالًا رائعًا في تفهم الاختلاف في وجهة نظر الطرف الآخر يروي ذلك لنا ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – ، قَالَ : ( قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم لَنَا، لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-  فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ )     ([7]) .

فالصحابة الكرام اختلفوا في فهم مراد النبيr من الصلاة في بني قريظة ، وانقسموا إلى فريقين فلم يكفر أيّ منهما الآخر، ولم يعب أحد منهما على الآخر.

لذلك ينبغي علينا أن نتعلم من هذا الهدي النبوي وأن نستفيد منه في حياتنا العملية وأن نترك التشهير .

والحسد سبب للخلاف لقوله جل جلاله  : ﴿ حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ ﴾    ([8]).

وكما يقال ما خلى جسد من حسد ، والحسد يسري في أهل المهن والمتقاربون في السن والزملاء ، والأقران فتجد أحدهم يخالف زميله لا لشيء إلا لأنه زميله فقط . يقول الشاعر في ذلك:

ولكل شيء آفة من ضده     حتى الحديد سطا عليه المبرد

ومن أسباب الاختلاف : التعصب للأشخاص والمناهج ، بعض الناس إذا أحب شخصاً أولع به ، فتجد بعض الناس يتعصب مثلاً لشيخ ، فيقول: شيخي إذا قال إجابة في مسألة فقوله هو الصحيح ولا يمكن أن يخطئ ، وتجده يدافع عنه ويرد على من رد عليه بالحق وبالباطل ، وهذا لا يصح وليس أحد معصوماً إلا محمد-صلى الله عليه وسلم- ، والكتب كلها فيها اختلاف إلا القرآن ، لقوله جل جلاله  : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾     ([9]).

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الوفاق والاتفاق وأن يبعد عنا الخلاف المذموم.

[1] – سورة هود: الآيتين 118-119.

[2] – سورة يونس : الآية 99.

[3] – أي لسان من يحاوره .

[4] – سورة الأنفال :الآية 46.

[5] – سورة آل عمران :الآية 105.

[6] – سورة الأنعام :الآية 159.

[7] – رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

[8] – سورة البقرة:الآية 109.

[9] – سورة النساء:الآية 82 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق