المقالاتعام

تثبت قبل أن تتكلم

تثبت قبل أن تتكلم

لا تتعجل فتندم

ظاهرة خطيرة ، وكبيرة من الكبائر استهان بها كثير من الناس، وهي التسرع في الحكم على الناس وتصرفاتهم ؛ لخبر سمعوه – دون أن يتركوا مجالاً للعقل للتفكير في كلماتهم التي ستخرج من أفواههم أو لأحكامهم التي ستحكم بتلويث سمعة الناس والإساءة إليهم – فتجده دومًا يفتح أذنيه لفلان وفلان الذين ينقلون إليه أخباراً جُلها طعن في أعراض الناس والوقوع فيها ناسياً أحدهم – أو متناسياً- قول الله جل جلاله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ ([1]) .

قال ابن القيم – رحمه الله : إنما كانت العجلة من الشيطان ، لأنها خفة وطيش ، وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم ، وتوجب وضع الشيء في غير محله ، وتجلب الشرور ، وتمنع الخيور ، وهي متولدة بين خُلقين مذمومين التفريط والاستعجال قبل الوقت .

وإن المتسرع في إصدار أحكامه يكون بذلك متجاهلاً نهي النبي – صلى الله عليه وسلم –  كما في الحديث : (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ )([2]).

فتسمعه تارة يقول : سمعتهم يقولون بأن فلان…. ، وزعموا بأن فلاناً … ، ولو سُئل عن مصدر معلوماته الـ…. . لقال : سمعتهم يقولون ،أو زعموا ،أو هذه معلومات من مصدر موثوق به.

ولقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : عن( قيل وقال) أي : كثرة الحديث وكثرة الكلام دون رويّة ولا تدبر ولا تثبت . وقد ذم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الفعل فقال: (بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا) ([3]

وهذه هي التي أطلق عليها بعض أهل العلم المعاصرين: وكالة يقولون “، فترى كثيرًا من الناس يتناقلون الأحاديث والشائعات والأخبار دون رويّة ولا تثبّت ، وقد يسهمون بذلك بفتّ عضد المسلمين وضعضعة معنوياتهم وبثّ الرعب في قلوبهم ، فيخدمون من حيث لا يشعرون أهدافَ العدو، فيضعفون المعنويات ويلقون الرعب في القلوب .

أما قرأ ذلك الناقل المتسرع قوله جل جلاله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ([4]) .

أما علم كم من بيوت هدمها بكلماته ،

وكم من أستار هُتكت بعباراته ،

وكم من حرمات انتُهكت بتسرعاته ؛

لأن الواحد منهم لم يُكلف نفسه أن يتثبت من الكلام الذي سمعه قبل إذاعته ونشره في المجالس كأنه آلة بث شيطانية .

ولقد ضربت لنا السنة مثلاً من الذين خلوا من قبلنا كيف أن تسرعهم في إصدار الأحكام تسبب بأذىً بليغ لأحد العُبّاد يقص لنا ذلك أبو هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ ( لَمْ يَتَكَلَّمْ فِى الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ …

وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِدًا ، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً فَكَانَ فِيهَا . فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّى

فَقَالَتْ : يَا جُرَيْجُ .
فَقَالَ : يَا رَبِّ أُمِّى وَصَلاَتِى.

فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاَتِهِ – وتكرر منه ذلك ثلاثة أيام – …

فَقَالَتِ : اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ .

فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِىٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا

فَقَالَتْ إِنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ – قَالَ – فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا

فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِى إِلَى صَوْمَعَتِهِ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ فَلَمَّا وَلَدَتْ ،

قَالَتْ : هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ .

فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ .

فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ،

قَالُوا : زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِىِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ.

فَقَالَ : أَيْنَ الصَّبِىُّ ؟ فَجَاءُوا بِهِ ،

فَقَالَ : دَعُونِى حَتَّى أُصَلِّىَ ، فَصَلَّى . فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِىَّ فَطَعَنَ فِى بَطْنِهِ

وَقَالَ : يَا غُلاَمُ مَنْ أَبُوكَ؟

قَالَ : فُلاَنٌ الرَّاعِى . –

قَالَ – فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ ،

وَقَالُوا : نَبْنِى لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ .

قَالَ : لاَ أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ. فَفَعَلُوا )([5]).

هذا العابد قد جعل الله له كرامة أن ينطق الصبي في مهده بين يديه ؛ ليظهر الحق من الباطل ، والحقيقة من الإشاعة، فنجا بذلك من تكرار الضرب والإهانة ، وأُعيد إلى مركزه ومنصبه ، ورُدت إليه أمواله ، وبُني له بيته. فمن يكون لكثير منا إذا وقع ضحية إشاعة خبيثة قبلتها النفوس المريضة ، أو حكم متسرع من صاحب هوىً .

نجاتنا هي أن نعمل بحديث نبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه : ( مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ . بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِى لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ . وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَىْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)([6]).

وختامًا علينا أن نتذكر قول رسولنا الكريم r لعقبة بن عامر- رضي الله عنه – في الحديث قال: قلت يا رسول الله ما النجاة قال: (أَمْسِكْ عليك لِسانَكَ ، ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ. وابْكِ على خطيئتك)([7]).

 

[1] – سورة الحجرات: الآية 6

[2] – رواه مسلم في صحيحه.

[3] – رواه أبو داوود في سننه وصححه الألباني.

[4] – سورة النور: الآية 19

[5] – رواه البخاري في صحيحه.

[6] – رواه أبو داود في سننه وحسنه الألباني.

[7] – رواه الترمذي في سننه وصححه الألباني.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق